
لا تخدعك المظاهر

أثناء عملي بإحدى وكالات الأنباء العالمية كنت أتابع إحدى جلسات منتدى الدوحة، وهو حدث عالمي يشارك فيه عدد كبير من الملوك والرؤساء ورؤساء الحكومات والوزراء ومسئولي المنظمات الدولية والإقليمية والمتخصصين والأكاديميين في مجالات عدة من مختلف قارات الدنيا.
وأثناء الجلسة كان الضيف يتحدث عن خبراته التي اكتسبها بعد تقاعده "منذ أكثر من 15 عاما"، فقاطعه المحاور متسائلا: وكم عمرك الآن فأجاب الرجل: أكثر من 75 عاما فتعجب جميع الحاضرين خاصة وأن الرجل يبدو في الخمسين من عمره اعتمادا على هيئته وحيويته ونشاطه وذاكرته القوية وترتيب أفكاره.. وحين لاحظ الرجل دهشة المحاور زالمشاركين في الجلسة قال "لا تخدعكم المظاهر".
استدعت هذه العبارة إلى ذاكرتي أيام الصبا حين كنت طالبا في الإعدادية وكان ضمن زملائي في الفصل شاب طويل وعريض مفتول العضلات نحتمي به وقت "الخناقات" فما أن يراه "الخصوم" حتى يفروا هاربين.. وكان فصلنا بفضل هذا الشاب ذا كلمة مسموعة في المدرسة كلها.
وفي أحد الأيام تعرض صاحبنا للسباب من طالب قصير القامة ضعيف البنية فشعر مفتول العضلات بالإهانة وعزم على أن ينتقم لنفسه فأسرع خلف الطالب الذي لاذ بالفرار، وإذا بالطالب الصغير يقف فجأة وبحركة سريعة جدا وجدنا صديقنا الكبير "يتشقلب" في الهواء ليهوي تحت أقدام الصغير الذي ثبت ركبتيه على عنقه.
شعر زميلنا بأن صورته اهتزت وأنه سيكون أداة لسخرية المدرسة كلها فقام من فوره يحاول الانتقام، لكن "الصغير" استدار بسرعة خاطفة وثبت قدمه بطريقة معينة ثم دفعه فأوقعه أرضا وسط ذهول الجميع وبطريقة أسوأ من سابقتها.. واكتشفنا بعد ذلك أن البطل الصغير يمارس لعبة المصارعة وأنه بارع فيها.
تذكرت أيضا إمام المسجد الذي أنهى خطبته التي بكى فيها بكاء مرا وأبكى فيها جميع المصلين ثم سمعته بعد الصلاة يطلب من جار لنا أن يوقف له عداد الكهرباء لأن الفاتورة جاءته مرتفعة.
تذكرت الراهب الذي كان يمارس الرذيلة في دير العبادة والقضاة والضباط المرتشين والكثير من المسئولين الذين يتشدقون بقيم الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية ومحاربة الفساد وهم أبعد الناس عنها بل يحاربونها في الخفاء ويتبنونها في العلن.
تذكرت هذه المواقف وأنا أردد خلف الضيف "لا تخدعك المظاهر" ومنذ هذه الجلسة وأنا أضع هذه المقولة أمام عيني وأتخذها دستور حياة فلا أغتر بهيئة ولا كلام أو شعارات رنانة بل كل ما يعنيني هو ما تفعله على الأرض فليس مهما كيف تتكلم، وما منصبك، ووظيفتك، وحرفتك، بل كل ما يعنيني هو "عملك؟".